إنه من دواعي سروري أن أكتب في مثل هذا الموضوع الذي لطالما بحثت عنه طيلة عشر سنوات سابقة وناقشت فيه رسالة الدكتوراه الخاصة بي عن أنماط أزياء الملوك والأفراد في مصر القديمة، كيف استطاع المصري القديم أن يجعل من صناعة الغزل والنسيج صناعة واعدة متقدمة تلبي إحتياجاته في الداخل والخارج والسؤال الأصعب كيف استطاع أن يميز الملابس طبقاً لفئة المجتمع التي ترتديه فالنقبة القصيرة التي كان يرتديها الملك كان يظهر بها الأفراد والعمال ولكن راعى الفنان المصري القديم عدة أمور هامة منها الخامة وطرق التزيين وطرق الربط كل هذه الأمور سوف نتحدث عنها بالتفصيل في مقالات قادمة.
أما هذه المقاله أخصصها فقط لعرض تطور صناعة الغزل والنسيج في مصر القديمة والتي تعد من أقدم الصناعات حيث عثر على أقدم تمثيل لنول (هو المسئول عن تحويل الالياف إلى خيوط) في رسم بالمداد الأسود على طبق مصنوع من الطين يعود لحضارة البداري (إحدى الحضارات خلال العصور الحجرية) مما يبين معرفة المصري القديم بفكرة صنع الملبس حتى لو كانت المواد الخام بسيطة من الطبيعة، ثم تطورت مصر على الجانب السياسي والفني ومزيد من الإستقرار الذي أدى إلى مزيد من الإبتكار ومعرفة أسرار المهنة. تعد المرحلة الثانية من تطور صناعة الغزل والنسيج هي تلك المصورة على جدران مقابر أفراد الدولة القديمة بسقارة والجيزة والتي يتضح منها معرفته بمراحل صناعة الغزل والنسيج والأدوات المستخدمة في كل مرحلة، فالمغازل اليدوية كانت هي الأداة الخاصة بإنتاج الإلياف بعد عملية طويلة تتم على سيقان الكتان وذلك لتهيئتها لكي تصبح ألياف جافة بدون السليليوز ثم تحويل هذه الألياف إلى خيوط بواسطة الأنوال التي صنعها المصري القديم من أفلاق النخيل وغيرها من المواد الطبيعية.
من الجدير أن نذكر أن المصري القديم استطاع أن يطوع كل المواد التي توجد في الطبيعة وذلك لتطوير هذه الصناعة لتصبح من الصناعات الهامة في مصر القديمة. وخلال عصر الدولة الحديثة شهدت صناعة الغزل والنسيج تطورراً هاماً من خلال تطوير الأدوات المستخدمة في الصناعة حيث الأنوال الرأسية والأفقية والتي تم تطويرها لكي يتمكن الفنان من الزخرفة خلال عمليات التسدية ومنها تم ابتكار ما يعرف بالقباطي وهي طريقة للزخرفة كانت تتم أثناء وضع الخيوط على النول، وقد شهدت هذه الفترة تطوراً كبيراً على جميع المستويات منها الأيدي العاملة التي أصبحت مدربة ولديها مخزون من الأفكار لتنفيذها سواء للملوك أو الأفراد.
ولكي تكتمل هذه المنظومة لابد من معرفة المواد الخام التي استخدمها المصري القديم في جميع مراحل صناعة الغزل والنسيج ولعل الكتان هو المادة الأهم التي استخدمها المصري القديم منذ أن عرف الصناعة حتى نهاية التاريخ المصري القديم وذلك بسبب إعتقاده بطهارة الكتان على عكس المواد الخام الأخرى مثل الصوف وغيرها من المنتجات الحيوانية التي لم يكن يفضل استخدامها لصناعة الملابس سواء للملوك أو الأفراد، ربما خلال العصر المتأخر استخدم الصوف في بعض عمليات الزخرفة على بعض الثياب الكتانية ولكن يظل الكتان هو المادة المفضلة لصنع الملابس في مصر القديمة.
على الجانب العملي عرف المصري القديم سمات الكتان من ناحية عدم امتصاص أشعة الشمس ويتميز بدرجة عالية من الرطوبة التي تنعكس على حرارة الجسم ويعطي راحة لمرتديه وهي من الأمور الهامة التي جعلت منها مادة هامة لكل ملابس الملوك والوزراء وكبار رجال الدولة حتى العمال في مصر القديمة. وقد استمر ازدهار صناعة الغزل والنسيج حتى نهاية العصر المتأخر مع تطور الأدوات ولكن مع الحفاظ على كل التقاليد التي اكتسبتها الصناعة منذ ظهورها وهو ما يميز صناعة الغزل والنسيج في مصر القديمة بأنها قد تجددت وتطورت مع الزمن مع الحفاظ على تقاليد ثابته وأسس تم الإتفاق عليها منذ البداية